أبحاث

الهوية الوطنية (السورية) بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل (حوار مع بدر الدين عرودكي)/ حسام الدين درويش

غالبًا ما تضعف السمة الوطنية حيثما/ حينما يكثر الحديث عنها، وبالعكس. ويعني العكس هنا، من ناحيةٍ أولى، أن الوطنية غالبًا ما تكون أقوى حيثما/ حينما يقلّ الحديث عنها، وتنتفي الحاجة إلى مثل هذا الحديث؛ ويعني العكس المذكور، من ناحيةٍ ثانيةٍ، أن خطابات الوطنية تقلّ غالبًا حيثما/ حينما تكون الوطنية في “صحةٍ جيدةٍ”. وفي بحثه الموسوم ﺑ “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس“، الصادر عن مركز حرمون، بداية الشهر الماضي تشرين الأول/ أكتوبر 2020، يشير بدر الدين عرودكي إلى أن النقاش حول موضوع “الهوية الوطنية السورية” تصاعد منذ أن صدحت حناجر ثوار 2011 بالهتاف الشهير: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد” (ص 49)([1]). ولا يعني ذلك أن وضع تلك الوطنية كان أفضل قبل ذلك التاريخ، وإنما يعني أن وضع تلك الوطنية كان مأزومًا لدرجة اقتصارها غالبًا على أن تكون موضوع مزاودةٍ شعاراتيةٍ من السلطة الأسدية، مع حظر مناقشتها في المجال السوري العام.

النقاش المتصاعد حول “الهوية الوطنية السورية” تجسَّد في عددٍ متزايدٍ من الندوات والنصوص والأبحاث المخصصة لهذا الموضوع. ويمكن النظر إلى بحث عرودكي المذكور على أنه أحد أهم هذه الأبحاث. وتكمن أهمية هذا البحث، من ناحيةٍ أولى، في كونه يتضمن دراسةً تاريخيةً ومفهوميةً، نظريةً وميدانيةً، في الوقت نفسه. فالبحث يحاول تتبع نشأة/ تطور (مفهوم) الهوية الوطنية السورية خلال المئة العام الأخيرة، 1920-2020، مع محاولة تحليل هذا المفهوم وتحديده وإبراز مقوماته وأبعاده المختلفة. وإضافة إلى ذلك الأساس أو التأسيس النظري، يستند البحث إلى تحقيق ميداني أشرف عليه طلال المصطفى، حول موقف السوريين من الهوية الوطنية والتغيرات التي طرأت عليها بين عامي 2011 و2020. (ص 50-70). وتكمن أهمية البحث، من ناحيةٍ ثانيةٍ، في كونه لا يقدم إجاباتٍ جاهزةً وناجزةً، ولا يفترض الوجود المسبق لمثل هذه الإجابات، بل إنه يؤكد أن مثل تلك الإجابات ليست موجودة (حتى الآن) أصلًا. لذا يشدد البحث، في عنوانه ومتنه وهوامشه، على إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها، لكنه لا يقتصر على عرض تلك الإشكالية أو ذلك الالتباس، بل يقدّم أيضًا أطروحةً معرفيةً وموقفًا سياسيًّا/ أيديولوجيًّا -بالمعنى الوصفي أو الإيجابي معياريًّا للكلمة- يتمثلان في القول بوجود هوية وطنيةٍ سوريةٍ/ شاميةٍ، وفي السعي إلى إيجاد حلٍّ لإشكالية تلك الهوية والتباسها. وهكذا ينوس نصّ البحث، بين عرضٍ معرفيّ لإشكالية الهوية الوطنية السورية، بوصفها وجودًا بالقوة، من جهةٍ، وسعيٍ سياسيّ أيديولوجيّ، يرى إمكانية تحويلها إلى وجودٍ بالفعل، وضرورة هذا التحويل، من جهةٍ أخرى.

يرى عرودكي، مع أرسطو، أن “الوجود يقال على أنحاء متفرقةٍ أو مختلفةٍ”، وانطلاقًا من ذلك، يستند إلى تمييزه الشهير بين “الوجود بالقوة والوجود بالفعل”، ليقول بأن “الهوية الوطنية السورية موجودة بالقوة فقط، وإنها ليست موجودةً بالفعل، وإنه ينبغي بذل كل الجهود الممكنة لجعلها موجودةً بالفعل. القوة في “الوجود بالقوة” تكون إما فعليةً، بحيث تعني قدرة شيءٍ ما على إحداث تغييرٍ ما، وإحداث الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، أو انفعاليةً بحيث تحيل على قدرة شيءٍ ما على الانتقال من حالٍ إلى حالٍ بتأثيرٍ ما. ووفقًا لبحث عرودكي، تبدو قوة الوجود الحالي للهوية الوطنية السورية أقرب إلى القوة الانفعالية، لأنها غير قادرة بذاتها على أن تكون وجودًا بالفعل، وهذا يعني أنها بحاجةٍ إلى موجودٍ آخر، لكي يكون بالإمكان أن تصبح موجودةً بالفعل. يرى البحث أن الدولة هي ذلك الموجود الآخر الذي يستطيع أن ينقل الهوية الوطنية السورية من حالة الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.

لكن ما الذي تفعله الدولة تحديدًا، في هذا الخصوص؟ هل تكتفي بتجسيد مقومات الهوية الوطنية الموجودة مسبقًا، أم أنها تقوم بخلق هذه المقومات أو بعضٍ منها على الأقل؟ يميل القسم النظري من البحث إلى الخيار الأول، حيث يؤكد مرارًا أن الدولة تجسِّد ما هو موجودٌ بالقوة مسبقًا، بحيث يبدو أن كل مقومات الهوية الوطنية موجودةٌ بالقوة قبل وجود شرط الوجود الفعلي لتلك الهوية، والمتمثل في السلطة/ الدولة التي تجسد “صورة هذه الهوية الوطنية وحصيلتها” ص 10. ولا يعني ما سبق أن إجابة البحث عن السؤال التقليدي الشهير المتعلق بمسألة أسبقية الوجود بين الدولة والأمة/ الهوية الوطنية بسيطةً، بحيث إنه يتبنى إما الأطروحة القائلة إن وجود الأمة/ الهوية الوطنية يسبق وجود الدولة، وإما العكس. فالتمييز بين نوعي الوجود يفقد الإجابة بساطتها وشيئًا من وضوحها. ويمكن صياغة أطروحة البحث في هذا الخصوص بالتالي: (مقومات) الهوية الوطنية/ الأمة توجد بالقوة قبل وجود الدولة، ووجود الدولة فقط هو الذي يجعل المقومات أو الهوية المذكورة موجودة بالفعل. لكن ليس واضحًا تمامًا ما الذي تضيفه الدولة إلى الهوية الوطنية الموجودة بالقوة مسبقًا، غير فعلية ذلك الوجود.

إذا كان الإطار النظري الذي يقدمه البحث لا يقدم إجابةً واضحةً، تمام الوضوح، عن هذا السؤال، فإن الدراسة التاريخية التي يتضمنها البحث تساعد في زيادة جزئيةٍ ونسبيةٍ في درجة وضوح معالم الإجابة المذكورة. ففي حديثه عن التكون التاريخي لهوية سوريا الكبرى/ بلاد الشام، يشير عرودكي إلى أن وجود مركز السلطة السياسية في دمشق كان “عاملًا شديد الأهمية، لا في المساهمة في تكوّن هذه الهوية فحسب، بل في رعايتها وحماية خصوصيتها منذ بدايات تكونها […]” ص 15. ووفقًا لتلك الدراسة لم يفضِ وجود دولة سوريا إلى الوجود الفعلي للهوية الوطنية السورية. وهذا يعني أن وجود الدولة بحد ذاته غير كافٍ لتحويل وجود الهوية الوطنية، من وجودٍ بالقوة إلى وجودٍ بالفعل. فذلك التحويل مشروطٌ، أيضًا، بممارسات تلك الدولة وسياساتها، في هذا الخصوص. فهذه الممارسات والسياسات تكون عقبةً أمام تشكل الهوية الوطنية أكثر من كونها عاملًا مساعدًا على وجودها أو إيجادها الفعلي. وبدا ذلك واضحًا في سلوك القوى التي حكمت سورية منذ استقلالها، لكن ذلك الوضوح بلغ ذروته ونموذجيته مع السلطة الأسدية التي لم تكتفِ بإقصاء الهوية الوطنية السورية والتبني الشكلاني لأيديولوجيا عروبية لا ترى في سورية إلا قطرًا من “وطنٍ عربيٍّ”، بل مارست استبدادًا مضادًّا لكل ممكنات قيام الهوية الوطنية السورية.

تختلف أطروحات البحث، في هذا الخصوص، مع عددٍ من أطروحات عزمي بشارة في كتابه “في المسألة العربية…”. ففي حين أن بشارة يرى ضرورة الانطلاق من القومية العربية، لبناء وحدةٍ وطنيةٍ محليةٍ، في الدولة القطرية العربية، ويجزم بفشل الدول القطرية في تكوين هُويةٍ وطنيةٍ محليةٍ (غير عربيةٍ)، سواء أكان ذلك على أساس إثني محلي، أو على أساس المواطنة، نجد أن عرودكي يقول بنجاح الأردن ولبنان -“بفضل الإرادة الشعبية والتوافق السياسي”- في “ترسيخ هوية وطنية خاصة بكلٍّ منهما”. ص4. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول مع بشارة بفشل سورية أو نظامها الحاكم في بناء هوية وطنية سورية، لأنه كما يبين عرودكي محقًّا، لم يسعَ النظام الأسدي إلى بناء تلك الهوية أصلًا، وما كان بالإمكان أن يضع ضمن أهدافه “هدف تحقيق وحدة وطنية حقيقية”، نظرًا إلى أن أول أهدافه وأهمّها كان دائمًا “حماية النظام وضمان استمراره”. ص 36. وإذا كان بشارة يرى أن الهوية الوطنية (العربية/ القومية) هي أساس ضروري لقيام نظامٍ ديمقراطي في “الدول العربية”، فإن عرودكي يشدّد على أنّ أهمّ مقومات تجسيد الهوية الوطنية (السورية) بالفعل “يكمن في وجود دولة مركزية مدنية ديمقراطية، في أول بند من برنامجها التعبير عن إرادة شعبية حقيقية في العيش المشترك الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون، أيًا كانت انتماءاتهم المناطقية أو القبلية أو العشائرية، أو معتقداتهم، وصوغ عقد اجتماعي يقول ذلك كله” ص 49. لكن عرودكي نفسه يشير في مواضع عدةٍ إلى أن دور الدولة المدنية الديمقراطية المذكورة لا يقتصر على تجسيد الهوية الوطنية وإرادة العيش المشترك، بل ينبغي لتلك الدولة أيضًا أن تسهم في تعزيز تلك الهوية والإرادة وإثراء الثقافة المرتبطة بها، من خلال إظهار أو إبراز إيجابياتها الكثيرة والكبيرة. ص 47-48.

لكن ما الذي يعنيه مفهوم الهوية الوطنية؟ وما هي مقومات هذه الهوية تحديدًا؟ ينطلق بحث عرودكي من الإقرار بالإشكالية الكبيرة المتصلة بالإجابات عن هذين السؤالين، ومن التشديد على عدم “وجود تعريفٍ جامعٍ مانعٍ مجمعٍ عليه لمفهوم الهوية الوطنية”. ليسوِّغ ضرورة المماهاة أو المطابقة، جزئيًّا على الأقل، بين مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم الأمة أو الدولة القومية/ الدولة-الأمة. وعلى الرغم من المعقولية الجزئية والنسبية لهذه المماهاة أو المطابقة؛ فإنها تثير العديد من الصعوبات النظرية المفاهيمية. المقابل الأجنبي، الفرنسي والإنجليزي لمفهوم الوطني/ الوطنية، لدى عرودكي، هو كلمة national. لكن إذا كان التطابق بين مفهومي الوطنية والقومية مقبولًا ومعقولًا سابقًا، أو حاليًّا لدى الاتجاه اليميني المتطرف في السياسة (ترامب ولوبين مثلًا)، فهناك، في المقابل، أغلبية تشدد على التمايز أو على ضرورة التمييز بين مفهومي الوطنية والقومية في الخطاب السياسي، الأكاديمي وغير الأكاديمي. والتمايز بين المفهومين ليس وصفيًّا فحسب بل هو معياريّ أيضًا؛ ففي حين أن مفهوم القومية nationalism أصبح يحظى بسمعة سيئة (جدًّا) ويتضمن قيمًا معيارية سلبية عمومًا في “العالم الغربي الديمقراطي”، فإن مفهوم الوطنية patriotism يحظى غالبًا بسمعةٍ جيدةٍ ويتضمن قيمًا معياريةً إيجابيةً عمومًا. وقد ظهر ذلك واضحًا، وضوحًا كبيرًا ونموذجيًّا، في قول الرئيس الفرنسي ماكرون: “الوطنية هي نقيض القومية تحديدًا: القومية خيانة للوطنية”. وإذا كان بحث عرودكي يتركز على مفردة/ مفهوم الوطنية، فإن تركيزًا موازيًا على مفهوم القومية يظهر في “الملحق الميداني”، المنشور مع البحث. ففي ذلك الملحق حديثٌ عن وجود هوةٍ في المجتمع السوري، “بين الانتماءات القومية والانتماءات الوطنية”. والمقصود بالانتماءات القومية الانتماءاتُ العربية والكردية والتركمانية والشركسية. وهكذا يتم فصل الانتماء القومي عن الانتماء الوطني وربطه بالانتماء الإثني، وجعل الانتماء القومي أدنى من الانتماء الوطني وفي علاقة متوترة أو متضادة معه، في الوقت نفسه. وثمة إشكالية في الحديث عن وجودٍ (فعليّ) لقوميات، وليس لأقوامٍ، بدون وجود دولة يُفترض أنها ضروريةٌ لإظهار أو تجسيد الوجود الفعلي لتلك القوميات. وليس واضحًا لماذا أو كيف يتطلب الوجود الفعلي للهوية الوطنية وجود دولة تجسده، في حين أن الوجود القومي لشعبٍ أو جماعةٍ ما لا يتطلب وجود مثل تلك الدولة. لهذا السبب، ولأسبابٍ أخرى متصلةٍ به، ثمة ضرورة لتحديد وتوضيح المعاني الإشكالية لمفاهيم/ مصطلحات الوطنية والقومية والأمة والدولة والعلاقات المختلفة التي يمكن أن تنشأ فيما بينها.

ويرى عرودكي أن العناصر المقومة لوجود الهوية الوطنية أو الشعب أو الأمة تتمثل خصوصًا في اللغة والأرض والعادات والثقافة والمصالح المشتركة، لكن تلك العناصر تقتضي “وجود إرادة في العيش المشترك وفي التوافق على عقد اجتماعي”، لكي يتسنى لها أن تكون موجودةً بالفعل في دولةٍ تجسد الوجود الفعلي لتلك العناصر ولتلك الإرادة ولذلك التوافق. وهكذا يحاول عرودكي التوفيق بين مفهومين متمايزين للأمة: مفهوم هردر الألماني الذي ربط مفهوم الأمة بمفهوم النسب اللاإرادي إلى ثقافة/ لغة مشتركة بين أفراد جماعةٍ ثقافيةٍ/ لغويةٍ عضويةٍ؛ ومفهوم رينان الفرنسي الذي يشدد، بالدرجة الأولى، على الانتساب الإرادي الحرّ إلى جماعةٍ سياسيةٍ. ص 8. وفي هذه العلاقة التكاملية بين الإرادي واللاإرادي، بين الانتساب والنسب، بين الفاعلية الإنسانية والبنية، بين الوجود الفعلي، والفاعل إيجابًا، للدولة ووجود مقومات الهوية الوطنية بالقوة، يتجسد الجدل الإيجابي المؤسس للوجود الفعلي للهوية الوطنية، الذي يحاول عرودكي إظهاره في بحثه. فتلك الهوية ليست مجرد مفهومٍ نظريٍ بل هي قائمةٌ على أسس واقعيةٍ من جهةٍ، وخاضعة للقرار والاختيار السياسي/ الأيديولوجي من جهةٍ أخرى.

في شرحه لماهية الوجود بالقوة، ميَّز أرسطو بين قوةٍ قريبةٍ وقوةٍ بعيدةٍ، من حيث إن وجود الأولى لا يحتاج إلى “الكثير” ليصبح وجودًا بالفعل، في حين أن وجود الثانية يحتاج إلى تهيئةٍ وإعدادٍ مطولين نسبيًّا، قبل أن يصبح وجودًا بالفعل. ويبدو أن قوة وجود الهوية الوطنية السورية هي من النوع البعيد، لا من النوع القريب، حيث يرى عرودكي أن انتقال مقومات الهوية الوطنية السورية، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، يقتضي السير في أربعة اتجاهاتٍ: فكري، يحيل على توافق سوري حول ماهية الهوية الوطنية السورية ومقوماتها، ودستوريٍّ، يثبت ذلك التوافق ويسمح بالانطلاق لترسيخه في المجتمع السوري، وتربوي يتمثل في تعميق الوعي الصحيح واستبعاد الوعي الزائف في خصوص مضامين الهوية الوطنية السورية، وميدانيِّ يعمل على الوصول إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من أفراد الشعب السوري. ص 48.

لكن قبل ذلك كله، وتمهيدًا له، وسعيًا إلى تحقيقه، يرى عرودكي ضرورة طرح مسألة الهوية الوطنية السورية للنقاش في المجال العام، ويشدد على أن الخطوة الأولى، في هذا الخصوص، ينبغي أن تتخذ صيغة نقد الرؤى والمفاهيم المتعلقة بالهوية الوطنية السورية والمقترحة في كتابات السوريين منذ انطلاق الثورة السورية. ويختتم عرودكي دراسته بوعدٍ ضمنيٍّ أو صريحٍ بالعودة إلى تلك الكتابات، دراسةً ونقدًا، في بحث قادمٍ. ويمكن القول إن بحث عرودكي المنشور في بداية الشهر الماضي يسير مسبقًا في هذا الاتجاه التأسيسي. وما مناقشتي النقدية لبعض الرؤى والمفاهيم التي يتضمنها بحثه إلا استجابة لدعوته للقيام بمثل تلك المناقشة النقدية.

الحديث عن الهوية الوطنية، بوصفها وجودًا بالقوة، يعني أنها خيارٌ بين خياراتٍ متعددةٍ، وإمكان بين إمكاناتٍ متمايزةٍ. وليس هناك ما يضمن تحول ذلك الوجود إلى وجودٍ بالفعل. فاللامتناهي (بالتقسم) عند أرسطو هو نموذجٌ للوجود بالقوة الذي يستحيل تحوله إلى وجودٍ بالفعل. وخلال المئة عام الأخيرة، تجاورت الهوية الوطنية السورية الموجودة بالقوة، وتصارعت مع هويات أخرى موجودةٍ بالقوة أيضًا، كالهوية الإسلامية والهوية العربية والهوية السورية الشامية إلخ. كما تشظى انتماء سوريين كثر، في السنوات الأخيرة، وتفتت، في انتماءاتٍ فرعيةٍ مناطقيةٍ وطائفيةٍ ودينيةٍ ومناطقيةٍ وإثنيةٍ. ولا يتأسس التبني الأيديولوجي السياسي للهوية الوطنية ضمن حدود سورية القانونية على قناعة مبدئية بقيمٍ وطنيةٍ بالضرورة، وإنما قد يتأسس على قناعةٍ مصلحيةٍ بأن تلك الأيديولوجيا هي الوسيلة الوحيدة أو الفضلى لمنع انزلاق السوريين إلى انتماءات ما قبل أو تحت الدولة أو فوق وخارج الدولة، وتنافرهم وتناحرهم على أساس ذلك الانزلاق. ولعلّ أقوى مقومات الهوية الوطنية السورية المنشودة يكمن في أن سورية، بحدودها الرسمية الحالية، هي التي تحظى بالاعتراف القانوني والرسمي من قبل “المجتمع الدولي” والمنظمات الأممية المعنية بالأمر. وانطلاقًا من ذلك، وبالانفصال نسبيًّا عنه، يبدو أن التحقيق الفعلي للهوية الوطنية السورية أكثر سهولةً أو أقل صعوبةً من التحقيق الفعلي للهويات الأخرى المتمثلة في الهويات أو الانتماءات الإسلامية والعروبية والأممية، على سبيل المثال.

 ([1]) لتوثيق بعض الاقتباسات من بحث عرودكي، سأشير إلى رقم الصفحة بعد الاستشهاد الحرفي بنص من ذلك البحث.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى